سمرقند عاصمة الكبار



سمرقند عاصمة الكبار

إن فهم علم التاريخ لا يتضح لك بسرد الأحداث على الطريقة التقليدية التي لطالما تناولت الجانب الديني أو السياسي فقط، بل لابد لك إن أردت أن تفهم التاريخ وقوانينه الشبه متكررة أن تغوص بين طياته وتستخرج الجوانب الإجتماعية والإقتصادية كي ترى الصورة بإطارها المربع ، لك أن تتخيل التاريخ مربع له أربع زوايا وهم الدين السياسة الإقتصاد الإجتماع لن ترى الحقيقة أو أقرب ما تكون عليه إلا بعد أن تجمع هذه الزوايا الأربع ثم تتعمق بتأمل أحداث كل زاوية وربطها ببعضها البعض فإن لم تصل بعد ذلك للحقيقة يكفيك شرفاً أنك عرفت طريقها ووضعت نفسك على الخطوة الأولى. 

أضف إلى ذلك أنك إذا اردت أن تقترب أكثر لأي عمق تاريخي لأي دولة أو حضارة فشد الرحال إلى مكانك المراد وخالط أهلها واسمع منهم وأسألهم فالحضارة والإرث التاريخي لا يموتان وإن تضاءلا، فستجد بقايا منهما بطبائع وعادات ابناء جلدتهم وايضاً سترى أن بعض أساطيرهم أو جزء منها يقودك لأسرار عظيمة هي دليلك لفهم المربع الذي أردت.

هذا ما وجدته أنا وأساتذتي وزملائي برحلتنا إلى سمرقند فرأينا المدينة التي كانت عاصمة تيمورلنك المزينة فهي المطلة الشامخة وهي الطبيعة الساكنة، سمرقند الآن ليست عاصمة أوزبكستان الرسمية إذ أن طشقند هي عاصمة الجمهورية ولكن سمرقند كانت ومازالت  عاصمة بلاد ما وراء النهر، سمرقند التاريخ لا يحكي عنها بل فرضت نفسها عليه إنها من المدن القلائل التي خسر بها الكسندر المقدوني إحدى معاركه النادرة كما قيل، هي افراسياب هي مرقندا هي البساط الأخضر المزمّلة بسربال أزرق هو لون السماء.

وجدنا بها آثار للتيموريين والشيبانيين حكام هذه الأقاليم بالعصور الوسطى رأينا حياتهم الإجتماعية مترجمة على العمارة فها هو تيمور يبني مسجد بطريقة بديعة تخليداً لزوجته بيبي خاتوم وأيضاً وجدنا ضريح لممرضة تيمور التي ميزها بوضعها على طريق المقابر المؤدية لضريح القثم بن العباس -رضي الله عنه-، وايضاً أحد أحفاده المعروف بأولوك بيك العالم الفلكي في القرن الخامس عشر يصنع للبشرية مرصداً فلكياً ويهتم بالعلماء ، حتى أن الشيبانيين صنعوا الهوية الأوزبكية كما روى لنا أحفادهم معتزين بذلك، وذهبنا لما يسمى برجستان سكوير (مربع رجستان)معنى رجستان ارض التراب  يحوي ثلاثة مبان اثنان منهما متقابلان والاخير يتوسطهما متراجعاً للخلف وفي المنتصف ساحة عظيمة المبنى الذي على جهة اليسار مدرسة تنجيم وبنيت في أوائل القرن الخامس عشر، المبنى الايمن مدرسة للعلوم (شير دار ) دار النمر والمبنى الذي توسطهما هو مسجد جامع وبه كانت مراسيم دفن الرئيس الأوزبكي إسلام كرموف وكان بناؤهما في القرن ١٧ شير دار والمسجد، وهناك مثل بسمرقند يقول كل الطرق تؤدي لرجستان، من هذه الأمثلة أيقنت بأن التاريخ لا يكتبه الحافظ الناقل المكرر! بل يكتبه المطلع الرحّالة الناقد المدقق الذي يعتمد بكتاباته على الجوانب الأربع التي أسميناها مربع التاريخ، فمن غير إحداها -أي الجوانب الأربع- قد يكتب التاريخ ولكن ليس كما كان بل كما أراد كاتبه.

لا أبالغ إن قلت أن زيارة سمرقند وأخواتها من المدن التاريخية والوقوف على آثار الممالك السابقة كانت أحد الأسباب التي دعتني  للتأمل بالتاريخ وأيقظت بي همة البحث عن الحقائق منتزعاً ثوب المدرسة التاريخية التقليدية التي لطالما انتهجت تكرار المكرر بأسلوب مغاير احياناً.

خبر وتعليق:
بعد وصولنا بليلة دفن الرئيس الاوزبكي إسلام كرموف ووفاة أول رئيس للدولة من بعد الإستقلال يعد اختبار جداً صعب لشعب مثل الأوزبك بحكم أن هذه الحالة تعد الأولى بعد استقلالهم فلم يصوتو من قبل على رئيس للجمهورية غيره هذا ما تصورته إلا أننا وجدنا الشعب عاد كما كان بهدوئه وحيويته حتى هذه اللحظة.

مابعد النقطة:
التاريخ ليست حكايات وقصص بل هي تجارب يستفيد منها كل متأمل بصفحاته مسترشداً بإنجازات أصحابه متعظ بأخطائهم .

بقلم: فهد بن رشاش 
آخر ليلة بسمرقند 
@bin_rshash


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نادي التاريخ الثقافي

المذكرات الشخصية كمصدر تاريخي

( النساء في الاندلس )